فصل: تفسير الآية رقم (7):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (7):

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ (7)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان الغرور أكثر، بدأ به تنفيرًا عن حاله، لأن درء المفاسد أولى من جلب المصالح، فقال مؤكدًا لأجل إنكارهم: {إن الذين} ولما كان الخوف والرجاء معدن السعادة، وكان الرجاء أقرب إلى الحث على الإقبال، قال مصرحًا بالرجاء ملوحًا إلى الخوف: {لا يرجون لقاءنا} بالبعث بعد الموت ولا يخافون ما لنا من العظمة {ورضوا} أي عوضًا عن الاخرة {بالحياة الدنيا} أي فعملوا لها عمل المقيم فيها مع ما اشتملت عليه مما يدل على حقارتها {واطمأنوا} إليها مع الرضى {بها} طمأنينة من لا يزعج عنها مع ما يشاهدونه مع سرعة زوالها {والذين هم} أي خاصة {عن آياتنا} أي على ما لها من العظمة لا عن غيرها من الأحوال الدنيّة الفانية {غافلون} أي غريقون في الغفلة. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا}
اعلم أنه تعالى لما أقام الدلائل القاهرة على صحة القول بإثبات الإله الرحيم الحكيم، وعلى صحة القول بالمعاد والحشر والنشر، شرع بعده في شرح أحوال من يكفر بها، وفي شرح أحوال من يؤمن بها.
فأما شرح أحوال الكافرين فهو المذكور في هذه الآية.
واعلم أنه تعالى وصفهم بصفات أربعة:
الصفة الأولى: قوله: {إَنَّ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في تفسير هذا الرجاء قولان:
القول الأول: وهو قول ابن عباس ومقاتل والكلبي: معناه: لا يخافون البعث، والمعنى: أنهم لا يخافون ذلك لأنهم لا يؤمنون بها.
والدليل على تفسير الرجاء هاهنا بالخوف قوله تعالى: {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يخشاها} [النازعات: 45] وقوله: {وَهُمْ مّنَ الساعة مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 49] وتفسير الرجاء بالخوف جائز كما قال تعالى: {مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13] قال الهذلي:
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها.. والقول الثاني: تفسير الرجاء بالطمع، فقوله: {لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا} أي لا يطمعون في ثوابنا، فيكون هذا الرجاء هو الذي ضده اليأس، كما قال: {قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الاخرة كَمَا يَئِسَ الكفار} [الممتحنة: 13] واعلم أن حمل الرجاء على الخوف بعيد، لأن تفسير الضد بالضد غير جائز، ولا مانع هاهنا من حمل الرجاء على ظاهره ألبتة، والدليل عليه أن لقاء الله إما أن يكون المراد منه تجلي جلال الله تعالى للعبد وإشراق نور كبريائه في روحه، وإما أن يكون المراد منه الوصول إلى ثواب الله تعالى وإلى رحمته.
فإن كان الأول فهو أعظم الدرجات وأشرف السعادات وأكمل الخيرات، فالعاقل كيف لا يرجوه، وكيف لا يتمناه؟ وإن كان الثاني فكذلك، لأن كل أحد يرجو من الله تعالى أن يوصله إلى ثوابه ومقامات رحمته، وإذا كان كذلك فكل من آمن بالله فهو يرجو ثوابه، وكل من لم يؤمن بالله ولا بالمعاد فقد أبطل على نفسه هذا الرجاء، فلا جرم حسن جعل عدم هذا الرجاء كناية عن عدم الإيمان بالله واليوم الآخر.
المسألة الثانية: اللقاء هو الوصول إلى الشيء، وهذا في حق الله تعالى محال، لكونه منزهًا عن الحد والنهاية، فوجب أن يجعل مجازًا عن الرؤية، وهذا مجاز ظاهر.
فإنه يقال: لقيت فلانًا إذا رأيته، وحمله على لقاء ثواب الله يقتضي زيادة في الإضمار وهو خلاف الدليل.
واعلم أنه ثبت بالدلائل اليقينية أن سعادة النفس بعد الموت في أن تتجلى فيها معرفة الله تعالى ويكمل إشراقها ويقوى لمعانها، وذلك هو الرؤية، وهي من أعظم السعادات.
فمن كان غافلًا عن طلبها معرضًا عنها مكتفيًا بعد الموت بوجدان اللذات الحسية من الأكل والشرب والوقاع كان من الضالين.
الصفة الثانية: من صفات هؤلاء الكفار قوله تعالى: {وَرَضُواْ بالحياة الدنيا}.
واعلم أن الصفة الأولى إشارة إلى خلو قلبه عن طلب اللذات الروحانية، وفراغه عن طلب السعادات الحاصلة بالمعارف الربا نية، وأما هذه الصفة الثانية فهي إشارة إلى استغراقه في طلب اللذات الجسمانية واكتفائه بها، واستغراقه في طلبها.
والصفة الثالثة: قوله تعالى: {واطمأنوا بِهَا}
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: صفة السعداء أن يحصل لهم عند ذكر الله نوع من الوجل والخوف كما قال تعالى: {الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحج: 35] ثم إذا قويت هذه الحالة حصلت الطمأنينة في ذكر الله تعالى كما قال تعالى: {وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب} [الرعد: 28] وصفة الأشقياء أن تحصل لهم الطمأنينة في حب الدنيا، وفي الاشتغال بطلب لذاتها كما قال في هذه الآية: {واطمأنوا بِهَا} فحقيقة الطمأنينة أن يزول عن قلوبهم الوجل، فإذا سمعوا الإنذار والتخويف لم توجل قلوبهم وصارت كالميتة عند ذكر الله تعالى.
المسألة الثانية: مقتضى اللغة أن يقال: واطمأنوا إليها، إلا أن حروف الجر يحسن إقامة بعضها مقام البعض، فلهذا السبب قال: {واطمأنوا بِهَا}.
والصفة الرابعة: قوله تعالى: {والذين هُمْ عَنْ ءاياتنا غافلون} والمراد أنهم صاروا في الإعراض عن طلب لقاء الله تعالى.
بمنزلة الغافل عن الشيء الذي لا يخطر بباله طول عمره ذكر ذلك الشيء، وبالجملة فهذه الصفات الأربعة دالة على شدة بعده عن طلب الاستسعاد بالسعادات الأخروية الروحانية، وعلى شدة استغراقه في طلب هذه الخيرات الجسمانية والسعادات الدنيوية. اهـ.

.قال السمرقندي:

{إَنَّ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا} يعني: لا يخافون البعث بعد الموت؛ ويقال: لا يرجون ثوابنا بعد الموت.
{وَرَضُواْ بالحياة الدنيا}، يعني: اختاروا ما في الحياة الدنيا، يعني: على ثواب الآخرة {واطمأنوا بِهَا}، يقول: ورضوا بها وسكنوا إليها وآثروها وفرحوا بها.
{والذين هُمْ عَنْ ءاياتنا غافلون}، يعني: عن محمد والقرآن معرضون فلا يؤمنون؛ ويقال: تاركين لها ومكذبين بها، ويقال: لم يتفكروا فيها. اهـ.

.قال الثعلبي:

{إِنَّ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} يعني لا يخافون عقابنا ولا يرجون ثوابنا، والرجاء يكون بمعنى الهلع والخوف {وَرَضُواْ بالحياة الدنيا} فاختاروها دارًا لهم {واطمأنوا بِهَا} وسكنوا إليها.
قال قتادة في هذه الآية: إذا شئت رأيت صاحب دنيا لها يفرح ولها يحزن ولها يرضى ولها يسخط.
{والذين هُمْ عَنْ آيَاتِنَا} أدلتنا {غَافِلُونَ} لا يعتبرون.
قال ابن عباس {عَنْ آيَاتِنَا} محمد والقرآن غافلون معرضون تاركون مكذبون. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا}
فيه تأويلان:
أحدهما: لا يخافون عقابنا. ومنه قول الشاعر:
إِذَا لَسَعَتْهُ النّحْلُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا ** وَخَالَفَهَا فِي بَيْتِ نَوْبٍ عَوَامِلُ

الثاني: لا يطمعون في ثوابنا، ومنه قول الشاعر:
أَيَرْجُوا بَنُوا مَرْوَانَ سَمْعِي وَطَاعَتِي ** وَقَوْمِي تَمِيْمٌ وَالْفَلاَةُ وَرَائِيَا

اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {لا يرجون لقاءَنا}
قال ابن عباس: لا يخافون البعث.
{ورضُوا بالحياة الدنيا} اختاروا ما فيها على الآخرة.
{واطمأنُّوا بها} آثروها.
وقال غيره: ركنوا إِليها، لأنهم لا يؤمنون بالآخرة.
{والذين هم عن آياتنا غافلون} فيها قولان:
أحدهما: أنها آيات القرآن ومحمد، قاله ابن عباس.
والثاني: ما ذكره في أول السورة من صنعه، قاله مقاتل.
فأما قوله: {غافلون} فقال ابن عباس: مكذِّبون.
وقال غيره: مُعْرِضون.
قال ابن زيد: وهؤلاء هم الكفار. اهـ.

.قال الخازن:

{إن الذين لا يرجون لقاءنا} يعني لا يخافون لقاءنا يوم القيامة فهم مكذبون بالثواب والعقاب والرجاء يكون بمعنى الخوف تقول العرب: فلان لا يرجو فلانًا بمعنى: لا يخافه، ومنه قوله سبحانه وتعالى ما لكم لا ترجون الله وقارًا ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي:
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها

أي لم يخفه.
والرجاء يكون بمعنى الطمع، فيكون المعنى: لا يطمعون في ثوابنا {ورضوا بالحياة الدنيا} يعني: اختاروها وعملوا في طلبها فهم راضون بزينة الدنيا وزخرفها {واطمأنوا بها} يعني وسكنوا إليها مطمئنين فيها وهذه الطمأنينة التي حصلت في قلوب الكفار من الميل إلى الدنيا ولذاتها أزالت عن قلوبهم الوجل والخوف فإذا سمعوا الإنذار والتخويف لم يصل ذلك إلى قلوبهم {والذين هم عن آياتنا غافلون} قيل المراد بالآيات أدلة التوحيد.
وقال ابن عباس: عن آياتنا يعني عن محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن؛ غافلون: أي معرضون. اهـ.

.قال أبو السعود:

{إِنَّ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا} بيان لمآل أمرِ مَنْ كفر بالبعث وأعرضَ عن البينات الدالةِ عليه بعد تحقيقِ أن مرجِعَ الكلِّ إليه تعالى وأنه يعيدهم بعد بدئِهم للجزاء ثوابًا وعقابًا وتفصيلِ بعض الآياتِ الشاهدة بذلك، والمرادُ بلقائه إما الرجوعُ إليه تعالى بالبعث أو لقاءُ الحساب كما في قوله عز وعلا: {إِنّى ظَنَنتُ أَنّى ملاق حِسَابِيَهْ} وأيًا ما كان ففيه مع الالتفات إلى ضمير الجلالةِ من تهويل الأمر ما لا يخفى والمرادُ بعدم الرجاءِ عدمُ التوقعِ مطلقًا المنتظمِ لعدم الأملِ وعدمِ الخوف فإن عدمَهما لا يستدعي عدمَ اعتقادِ وقوعِ المأمولِ والخوف أي لا يتوقعون الرجوعَ إلينا أو لقاءَ حسابِنا المؤدِّي إما إلى حسن الثوابِ أو إلى سوء العذابِ فلا يأمُلون الأولَ وإليه أشير بقوله عز وجل: {وَرَضُواْ بالحياة الدنيا} فإنه منبئ عن إيثار الأدنى الخسيسِ على الأعلى النفيسِ كقوله تعالى: {يا أيها الذين ءامَنُواْ مَا لَكُمْ} ولا يخافون الثانيَ وإليه أشير بقوله تعالى: {واطمأنوا بِهَا} أي سكَنوا فيها سكونَ مَنْ لا بَراحَ له منها آمنين مِن اعتراء المزعجاتِ غيرَ مُخطرين ببالهم ما يسوؤهم من عذابنا، وقيل: المرادُ بالرجاء معناه الحقيقيُّ وباللقاء حسنُ اللقاءِ أي لا يأمُلون حسنَ لقائِنا بالبعث والإحياءِ بالحياة الأبدية ورضُوا بدلًا منها ومما فيها من فنون الكراماتِ السنيةِ بالحياة الدنيا الدنيةِ الفانيةِ واطمأنوا بها أي سكَنوا إليها مُكِبّين عليها قاصرين مجامعَ هِممِهم على لذائذها وزخارفِها من غير صارفٍ يَلويهم ولا عاطفٍ يَثنيهم، وإيثارُ الباءِ على كلمة إلى المنبئة عن مجرد الوصولِ والانتهاء للإيذان بتمام الملابسةِ ودوام المصاحبةِ والمؤانسة، وحملُ الرجاءِ على الخوف فقط يأباه كلمةُ الرضا بالحياة الدنيا فإنها مُنبئةٌ عما ذُكر من ترك الأعلى وأخذِ الأدنى، واختيارُ صيغةِ الماضي في الصلتين الأخيرتين للدِلالة على التحقق والتقّررِ كما أن اختيارَ صيغةِ المستقبلِ في الأولى للإيذان باستمرارِ عدم الرجاء.
{والذين هُمْ عَنْ ءاياتنا} المفصلةِ في صحائف الأكوانِ حسبما أشير إلى بعضها أو آياتِنا المنزلِة المنبّهةِ على الاستشهاد بها المتفقةِ معها في الدلالة على حقية ما لا يرجونه من اللقاء المترتبِ على البعث وعلى بطلان ما رضُوا به واطمأنوا إليه من الحياة الدنيا {غافلون} يتفكرون فيها أصلًا وإن نُبّهوا على ذلك وذُكّروا بأنواع القوارعِ لانهماكهم فيما يصُدهم عنها من الأحوال المعدودةِ، وتكريرُ الموصولِ للتوسل به إلى جعل صلتِه جملةً اسميةً منبئةً عما هم عليه من استمرار الغفلةِ ودوامِها، وتنزيلُ التغايرِ الوصفيِّ منزلةَ التغايرِ الذاتي إيذانًا بمغايرة الوصفِ الأخير للأوصاف الأُوَل واستقلالِه باستتباع العذابِ.
هذا وأما ما قيل من أن العطفَ إما لتغاير الوصفين والتنبيهِ على أن الوعيدَ على الجمع بين الذهولِ عن الآيات رأسًا والانهماكِ في الشهوات بحيث لا يخطُر ببالهم الآخرةُ أصلًا وإما لتغاير الفريقين والمرادُ بالأولين من أنكر البعثَ ولم يُرد إلا الحياةَ الدنيا وبالآخِرين مَنْ ألهاه حبُّ العاجل عن التأمل في الآجل فكلامٌ ناءٍ عن السداد فليُتأملْ. اهـ.